مقالات

إيـديـولوجــيا العــبــث (1)

[بصيغة PDF] 

    حياة الإنسان مجاهدة دائمة نـحو تصالح القِيم المتعالية مع السلوك الواقعي. تقف هذه المجاهدة والمحاولة الإنسانية على إمكانات الإرادة الذاتية؛ بين الوعي بهما والتماهي في إحداهما من جهة، والوعي بتحققهما في السيرورة الوجودية من جهة أخرى. الوعي بسياق القيم المفارقة والـحَراك السلوكي اليومي يتطلب يقظة تقارب حالة من الاتزان يمكن قياسها بمعيارية تثمر سكينة روحية، واستقرار نفسي، وبناء قدرة عملية على تحمل المسؤولية في الوجود عن طريق اتخاذ قرارات حياتية تجمع بين اختبار القيمة المطلقة في السلوك النسبي وتعي نسبية المطلق في النسبي، ومطلقية النسبي في المطلق.
      تحاول هذه المقالة –والتي تليها- قراءة التصالح بين تطبيع السلوك الواقعي مع القيمة المفارقة والمطلقة والمتعالية بهدف فهم العبثي واللاعبثي في الحياة اليومية. وكيفية اكتشاف المعنى خلالهما.

1- ورطة الثنائيات

“يــبدو أن عامة البشر من قديم الزمان لا تحب التوسط والاعتدال، وأن لديها ميولا فطرية تــشدها إلى المغالاة والتطرف لأقصى اليمين تارة، أو لأقصى اليسار طورا آخر… فنحن نستهين عادة بالتريث ونستثقله، ونأنس للمبادرة العجلة والسرعة والحماس !… “[1]

 إلى حد كبير أراني أقف فيه مع هذه الرؤية الوصفية، فإن ذلك هو عين ما نستلمحه في حياتنا اليومية من أنفسنا في كثير من الأحيان، وفي أبسط القرارات الشخصية والمادية… إلخ.

     ولعل من الأسباب وراء هذا الانـحياز لأقصى الطرفين؛ هي نزعة الدماغ البشري كيميائيا نـحو آلية الابتسار والتحيز التي يمارسها العقل الوظيفي. والمشكل هو أن تتحكم هذه الآلية في دفة سفينة الوجهة في الحياة؛ سيما حينما تكون النتيجة هي عقل انتقائي شرس في حديته، فترى هذا العقل يتتبع الجزء المتناسب مع خريطته الإدراكية الانتقائية، بلا أدنى إحساس بإمكانية وجود الابتسار والتشويه التي يسقطها العقل على الواقع أو العكس، ثم يقيم عملية التحليل بناء على ذلك الجزء المشوه، مهمشا سياقات ولحاقات ذلك الجزء، فتكون النتيجة سوء تفسير للواقع.. وللظاهرة.. وللتجربة.. وللنص…إلخ. وهنا يفقد المرء بوصلة الرؤية عبر خدعة الترائي.

2- نص تطبيقي

    لعل بيتا شعريا للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي -(1909م/ت:1934م)- ناله شيء من التحميل فيما لا يحتمل، وفُهم فهما ابتساريا انتقائيا، وحُمِّل فهما إيديولوجيا، تروجه رؤيتان:

  1. الرؤية الأولى: بـحسن النية تغار على مسلماتها الدينية، و فور سماعها للبيت تهب ميكانزمات الدفاع الإيديولوجية لديها بغير تروٍ لنبز ونبذ هذا البيت. ولعل من أسباب هذه العجلة هي الحساسية الإيديولوجية الشديدة، وربما المفرطة تجاه كل ما تراه -بادي الرأي-متعارضا مع مسلماتها.
  2. الرؤية الثانية: رؤية ميكافيلية انتهازية مصلحية آنية– لا حديث لنا معها- لأنها تكرس لعقلية القطيع، والوعي الزائف، والهزيل، والنفعي.

الشاعر التونسي الشابي يفتتح قصيدة له بعنوان “إرادة الحياة” – ضمن ديوانه(أغاني الحياة[2])  قائلا:

إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر

       ولابد لليل أن ينجلي / ولابد للقيد أن ينكسر

  ومن لم يعانقه شوق الحياة / تبخر في جوها وانكسر

–       إلى أن يقول :

كذلك قالت لي الكائنات / وحدثتني روحها المستتر “.

      في هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن السنن القدرية الكبرى في المجتمعات البشرية، بربط مفهوم السببية بإرادة عليا من حيث الأصل، حيث أنه بحث عن ما يخرج الشعوب المقهورة، من وطأة الاحتلال والاستبداد، فوجد أن جهاد الإرادة أول بوابة نـحو الدخول في خضم الحياة الفاعلة- فقد مرت تونس الخضراء بأحلك الظروف وأقساها في زمن حياة الشاعر القصير، الذي وافته المنية وهو ابن خمسة وعشرين ربيعا، وقد ساءه ما رأى من أنات شعبه الموصود، من قبل المحتل الفرنسي- فنادى شعبه بأن تكون لهم إرادة أولا، فإن الإرادة العليا القدرية لا توهب للكسالى، والعطالى، وأرباب الخمول الذين نخرت فيهم روح التراخي بأي اسم، وتحت أي شعار ودين؛ فأرادوا أن يكون لهم مكانة دون سعي وإرادة .!

   ينتقل الشاعر بعد ذلك مخاطبا إياهم بقوله :” ومن لا يحب صعود الجبال / يعش أبد الدهر بين الحفر“.

      هكذا أراد الشاعر أن تُفهم قصيدته، فهو يشير إلى حتمية سننية قدرية في مجتمعات البشر، حيث أن المسببات مرهونة بأسبابها، ومن ثم تستجيب الأقدار المطلقة لمن استوعب روحها، وعمل بمقتضياتها في عالم التحقق الواقعي العملي، لا بمن قصر في الأسباب. ألم يكن الأول صادقا حين قال :” ترك العمل بالأسباب معصية “؟!.

    ويعود يصرخ، حاثا شعبه للقيام من السبات، والعمل بالأسباب، حتى يتحقق فيهم موعود الأقدار، في إرادة الحياة ودخولها، مؤكدا أن الحياة في قانونها العام -لا الشاذ- مشروطة بتعـميم السبب بـ الإرادة الـمُبادِرة في جنبات الحياة فيقول:

” إذا طمحت للحياة النفوس / فلا بد أن يستجيب القدر “.

    أحببت أن أبرهن في هذا الأنموذج التطبيقي على فرضية العبث الدلالي التي تنتجها آلية الابتسار العقلية لمن توهم أن الشاعر خالف مسلمة دينية في إرادة الله المطلقة، وأن الشاعر يفرض استجابة ما على الإله! 

إنما المعنى الذي نفهمه عند توسيع فهم السياق -قدر المستطاع- والتحرز من الابتسار هو المعنى الذي قصده الشاعر- كما رأيت – فهو في معرض الحث والاستنفار الجماهيري ينادي الإنسان: أن الله لن ينصرنا، ولن يدخلنا الحياة الكريمة بلا عمل وإرادة .

  فهل تخفى على ابن “جامع الزيتونة” العالِم، والذي أجازه بعد سبع سنين علماء الجامع، وهو في عامه الثامن عشر. أقول وهل يخفى على من حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره أن الله هو القائل}وما تشاؤون إلا أن يشاء الله{.؟!

 

  • شُرفة/

“لن يَقبلَ الكَونُ وجودَ كائنٍ

   إلاّ إذا كَـفَّ عن الكينونَهْ!

       عليــــــكَ بالمرونَة !

       لا تتـــــــصلّبْ أبداً !

      فالصلْبُ يكـسرونَـهْ !”[3]. (أحمد مطر).

_________

* إحـــالات

[1] رجائي عطية، الإنسان العاقل وزاده الخيال، ص24- 25

[2] ص 218-221.

[3]  قصيدة بعنوان: المجد للّيمون.

* مصدر صورة المقال: هــنا 

مشاركة هذه التدوينة
Share on email
Email
Share on whatsapp
Whatsapp
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on print
Print
تقييم المقالة
1 (5 تقييمات, المعدّل: 4.20 من 5)
Loading...
قد يعجبك أيضًا
التوازن الغائــب
فلسفة الحياة اليومية(2) أوهام النجاح (1) مقدمة
الحرية هي المسؤولية
2 تعليقان
  • Ruqaya Al TAyeb
    26 مايو، 2019 الساعة 8:18 صباحًا
    رد

    أوافق،،

أكتب تعليق

تعليقك*

اسمك *
موقعك الإلكتروني