فـنيَّـات

الـجَمَال كـ حاجة سيكولوجية (1)

 

  • لماذا أكتب؟ لتراكَ فيَّ و أُراني فيك!.. فـكُلما بريتُ قلمي برانـي!”
                ( ميخائيل نعيمه| الأعمال الكاملة: ج3/”كرمٌ على درب”).

(1)

      إن الشعور بـ الجمال عاطفة إيجابية؛ كما أن الشعور بالقبح عاطفة سلبية. الأولى نتيجة نوع من أنواع مطلوبات الإرادة. والثانية نتيجة نوع من أنواع مرفوضات الإرادة؛ كالحب والكره، والسرور والحزن، واللذة والألم. علما أن ثمة تراتب في درجات الشعور هنا: فعاطفة اللذة أقوى حضورا من عاطفة الشعور بالجمال؛ لأن الشعور بالجمال عاطفة كمالية، والشعور باللذة عاطفة ضرورية مباشرة[1]. وعاطفة الشعور بالألم الجسدي أقوى حضورا من عاطفة الشعور بالقبح؛ لأن الأولى تهدد الحياة الذاتية بالفناء، خلافا للثانية فإنها من متطلبات الذات الموالية.

      من جهة أخرى فإن الدهشة عنصر من عناصر زوال الألم؛ حيث ينصرف الإنسان عن الواقع المؤلم في لحظة مفارقة تُشعره بارتياح ناتج عن إحساسه بالجمال المنبثق من الإحساس بالتناسق.

     من جهة أخرى فإن النفع في الشيء لا يدل على أنه جميل!بل كل جميل نافع من حيثية المردود الشعوري المباشر! فقد أُستثار جماليا وأندهش عندما أرى رسما دقيقا لدبوس يضم أوراقه بانتظام بعضا لبعض؛ أندهش لدقة رسم هذا الفنان؛ مع العلم أن الدبوس وأوراقه في الواقع اليومي أنفع من رسمهما! ومع نفعهما لا أشعر بجمالهما.!

 (2)

       إن الإدراك الجمالي على شُعبتين من حيثية الوعي به: إدارك داخلي وإدراك خارجي؛ نعني بالإدراك الخارجي المتعلق بالموضوعات الفيزيقية عن طريق الحواس الخمس؛ والإدراك الداخلي الناتج عن طريق الاستبطان(=أو التأمل الذاتي) لنفسياتنا وعواطفنا وانفعلاتنا[2]…إلخ حزمة العمليات الجوانية. والموضوع المشترك بين الإدراكات الداخلية والخارجية أن موضوعها حاضرا للوعي.

     هنا يتهدَّجُ الإنسان المتفكر والمستشعر… من سامقِ تمظهراته إلى قاع مكنوناتِ أعماقه ليبوحَ بما غرفته تجربته الداخلية والخارجية.. وينمحي خلالها ما يريد ألا يراه خارجيا، وينجلي جزءٌ مما يريد أن يـحياه داخليا.. فينبجسُ غسق التجربة الجمالية للذات المفردة.. ألـمًا كان كلأها، أو فُسحة كان موردُها…

     فتجربة الكتابة مثلا -لو أخذناها كموضوع جمالي- فهي من حيثية تعبير عن ألـَم، والألـمُ كتابة للوجود، يتلوَّنُ بكاء هذه الكتابة بلون أقربِ محبوباتها: فقد يكون محبوبها ريشة في لوحة.. وقد يكون محبوبها.. نغم في آلة.. وقد يكون رقصة في جسد.. ودمعة في رحم سجادة.. وانحناءة في قلم خطاط.. وصدى في حنجرة فنان… .

     ومن حيثية أخرى فـ الكتابة أملٌ لذيذ، والأمل كتابة يتراقص شدوها في ألم.. وفسحة من أمل… هكذا كما أن الإبداع ألم وجود وشُحُّ موجود! كذلك هو متعةُ حرفٍ يتدحرج المعنى من تلاله في الكتابة بـ ألمٍ أرقى عبر ألوان الانثيال البشري؛ فجدائل الخلجات تتوارى خلف تياكَ النوازع والخفايا التي لا يعرفها إلا صاحبها على التحقيق.

    إن الـجمال هنا نجده أسُّ فاعل في فعل الكتابة للحياة –إذا أخذنا “الكتابة” هنا كمعنى كُليَّانِي لا يقتصر على اللغات الحية التي يتحادثها البشر-. لقد وصف جوانية فعل الكتابة جبران خليل جبران في كتابٍ من كتبه الأخيرة، عبر إقامته تصورًا لملحمةِ من ملاحم صراع الخلجات النفسانية التي تعصف بالإنسان يصفها بأنها بين”أرباب الأرض“، فـبعد انتهاء كل إمكاناتنا، وعندما يخيم علينا البؤس والحزن والدم… يبقى”الـجمال طريقٌ يؤدي إلى الذات التي قتلت ذاتـها.. والنصر للحب! [3].

————

[1] عبد الجبار الوائلي، الجديد في فلسفة الجمال، مجلة الأقلام العراقية، السنة الثانية، الجزء الثالث، – 1965م. ص94-99

[2] ولترت ستيس، معنى الجمال، ص42.

[3] جبران خليل جبران، أرباب الأرض، ص42.

تقييم المقالة
1 (5 تقييمات, المعدّل: 2.80 من 5)
Loading...
2 تعليقان
  • Amal Ali
    11 نوفمبر، 2016 الساعة 12:45 مساءً
    رد

    رووعة من جد..كلمات من بعد آخر..

    • أحمد الحمدي
      16 نوفمبر، 2016 الساعة 12:43 مساءً
      رد

      مرورك أجمل.

أكتب تعليق

تعليقك*

اسمك *
موقعك الإلكتروني