تأملات

في لغة الوِجدان

      نعم؛ الحب وحده لا يكفي، لكن من يقول أن الحب والأمل والحياة في الحياة ليس لها في قائمة أولوياته مكان واهم أو هارب! فالإنسان كائنٌ عاشق أو معشوق ولا بد! مُحب أو محبوب ولا بد، آمل أو مأمول ولا بد! والهارب/الواهم قد يكون ممن مرَّ بانهيارٍ معنوي، أو تشتتٍ ذهني في تيهِ الوجود ذاتَ زمن، فلم يعد لِلُغةِ الوِجدان في قلبه وهَج-رغم أنين حنين كيانه إن كان ممن يتقن فن الإصغاء الوِجداني-، وحينئذٍ يُـمِّني نفسهُ ببدائلَ تطمينية فحسب، تجعله يمارس يومه بانغماسٍ جنوني لا أكثر!
    ومن يرى أن أفضل ما يتحصل عليه هو مال أو منصب… أخطأ الطريق إلى ذاتـه. إن أجمل ما نتحصل عليه في مكابداتنا اليومية هو المعنى المعنوي في وِجداننا، المعنى الذي تصطبغُ به كل نشاطاتنا وليس شكل الممارسة المتلونة.
وتوحيد القِبلة الوِجدانية صوبَ تحديد معالم مشاعرنا تجاه الحياة في كُلِّيتِها أولا، وتجاه المسافات بيننا وبين الأشياء والبشر والكائنات ثانيا، هو محل لغة الوِجدان ومسرح صوت الضمير الحقيقي، فلا برهان أعظم من برهان الوِجدان على كل مِراسٍ يومي، دينا، أو عملا، أو عادة.
     تأمل معي هذا النص من فلسفة الزن اليابانية (1):
” ذاتَ مرة من الزمن الماضي، كان في الصين القديمة ناسِكٌ يمارسُ بعض السحر.
ذاتَ يوم ، زاره أحد أصدقاء الصبا واسمه سيانغ – جو.
كان الراهب الوَرِع يعيش مُنذ سنين طويلة في قلب الجبل البعيد ، وقد استقبل صديقه بترحابٍ وفرح بالغَيْن. قدم له الطعام ومأوى النوم.
في اليوم التالي قال له:” أريد أن أقدم لك يا سيانغ – جو هدية تذكارا لأيام الشباب”
ولما أشار بإصبعه نحو حُجرة كبيرة، تحولت إلى كُتلة ذهب صافٍ!
وبدلا من أن يبتهج الصديق بذلك، بدا عابسا ممتعضا حتى أنه لم يشكره:
“أيها الراهب وي ” قال: “عانيت وتكبدت متاعب السفر الطويل كي أصل إليك في قلب الجبل العميق فلماذا أكتفي بكتلة صغيرة من الذهب الصافي؟”
حينذاك، وقد أراد الناسك أن يُسدي جميلا لصديق صباه، سدد إصبعه نحو صخرة ضخمة ، فإذا بها كتلة من الذهب الصافي.
” آمل أنها أرضتك ” قال ضاحكا ” وأن يستطيع حمارك حملها !”
لكن سيانغ – جو لم يبتسم وظل عابسا ممتعضا؛
“ماذا تريد إذن ؟ ” سأل الراهب.
عندئذ ، أخرج سيانغ – جو ، رفيق الصبا ، سكينا كبيرة من حزامه .
قال:
“ما أريدهُ هو الإصـبع”!
أظن أن الاشتـغال على الإصبع الذهبية أولى من الانشغال بالجبل الذهبي!

——–
(1) هـنري برونـل، أجمل حكايات الزن يتبعها فن الهايكو، ترجمة: محمد الدنيا، سلسلة إبداعات عالمية، إبريل 2005 العدد 353، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت.

مشاركة هذه التدوينة
Share on email
Email
Share on whatsapp
Whatsapp
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on print
Print
تقييم المقالة
1 (7 تقييمات, المعدّل: 3.29 من 5)
Loading...
قد يعجبك أيضًا
الشوق للماوراء في الكائن البشري
قـوة الـكينونة(1) عُشاريَّـة الـعروج الذاتي
قـوة الـكينونة(3) عُـشَارِيَّة القراءة
2 تعليقان
  • Amal Ali
    11 نوفمبر، 2016 الساعة 12:23 مساءً
    رد

    حبيتها..علاقتي مع الحياة تتحسن كل يوم..لأنني الهمت بتقنين علاقتي مع البشر..

    • أحمد الحمدي
      16 نوفمبر، 2016 الساعة 12:45 مساءً
      رد

      الوعي بالمسافات جوهر في الوعي بالذات.

أكتب تعليق

تعليقك*

اسمك *
موقعك الإلكتروني