ذاتَ مرة سألَتْ الكاتبة التشيلية الشهيرة: إيزابيل الليندي(1) Isabel Allende نفسها «لماذا أشكو وأتذمر في حين أن هناك الكثير من الأسى والحيرة في هذا العالم؟ من أنا لكي أركز على نفسي فقط؟! »(2)
لقد خلصت إيزابيل إلى ذلك الشعور حينما زارت الهند؛ ورأت بؤس الفقر وضَنَك العيش هناك، أدركت حينها أن شعورها السابق بـ«الفرادة» ما هو إلا «استحقاق أنانية» وانحصار صنعته سياقات اجتماعية تكرس للفردانية من جهة، واللاكتراثية بالغير من جهة أخرى.
كل التجارب الروحية للشعوب الشرقية والغربية حاولت تجاوز عقبة الانحصار في الذات عبر سياسات الرياضات الروحية والدينية. لا بل وعرَّفَت الذَّات عبر العلاقة مع الآخر. فمثلا حينما تمتد يد العون بالغذاء والكِساء والدواء للآخر؛ فإن الذَّات هنا تُحقق ذاتيتها وفرادتها الحقيقية عبر تجاوز هذه الذات مع الآخر!
الجديد في حياة البشر هو تساوق غريزة التملك والأنا مع سياقات اجتماعية حديثة تُعرِّف الذَّات الإنسانية من خلال تكريس الفردانية الأنانية، واختلاق تبريرات عقلانية وقانونية اجتماعية؛ تنتهي إلى لا اكتراثية غيريَّة، وانحصارية ذاتية.
أسوأ ما في الكائن أن يختزل الوجود في انوِجاداته الظرفية. وأسوأ ما في هذه الانوجادات هي الأسر في ضيق الوجود الأنَوِي.
لما ظهرت مساوئ الذات الأنَويـَّة في حياة الإنسان الحديث بعد إزاحة السرديات الدينية والروحية الكبرى من حيز الوجود الكلي للذات؛ ظهرت بشكل أوضح فلسفات تنادي بأهمية الـمعنى والصيرورة والوجود الذاتي الحي والحقيقي والأخلاقي.
العجيب هو أن ظهور صَرَخات تشظي الذات الحديثة أخذت شكل مُفارِق لظاهرها: فالعدمية الفلسفية(كامو وسيوران مثلا) تستظهر اللامعنى؛ لكنها تستبطن المعنى! وذلك عبر إضاءة معنى الذات في هذا العالم الذي يتبدى لها أنه بلا معنى.
والفلسفة التحليلية (راسل- مور- فتجنشتين مثلا) في أوج انبهارها بالعلوم التجريبية كانت -ولا زالت- تحمل ظمأ للمعنى الكوني والوجودي للبشر؛ في ذات الوقت الذي تَعـتبِر فيه الـ«معنى» مجرد عبارة وقضية فارغة! لا تحمل «معنى»!
والوجودية النفسية(فرانكل مثلا) كانت أكثر صراحة وصدقا في مكاشفة ظمأ الإنسان للـ«بحث عن معنى».
[تجاوز الذات والنزعة الفردية|فيكتور فرانكل Viktor Emil Frankl (1997-1947)]
عزاء الإنسان في تحقيق وجوده المقبول والحقيقي هو في اكتشاف مآسيه، وحدود ذاته، ونوازعه الغَـرَزية، وخيالاته التي تؤرق وجوده الـهَش.
يُـثير هذا الكائن من الضحك بقدر ما يثير من الدهشة والأسى.
يستسلم هذا الكائن لسياسات التنميط بسهولة؛ وتظل ذاته تحمل بذرة وجوده المُفارِق فيما وراء هذه الذات.
من ضمن استسلامات الكائن لتنميطاته: الأسر في سجن البحث عن الذات! فالظن بأن الذات كيان يمكن القبض عليه في لحظة انوجاد ممتدة هو بحد ذاته انحصار في الأنوية الزائفة.
فكل وعود خطابات الرفاه والسلام والتنمية والمساعدة الذاتية المعاصرة التي تحاول القبض على الذات؛ هي محاولات محفوفة بالسقوط في سجن البحث عن فردوس موهوم يُسمى «الذات». هذا السجن هو ما أدركَـتْه إيزابيل الليندي حينما قالت: ”من أنا لكي أركز على نفسي فقط“؟!
إن «رحلة البحث عن الذات» لا تكمن في السعي نحو كَـيان كثيرًا ما يكون كَيانًا مُتخيَلا اسمه «الذات» والسعادة؛ وإنما عبر سياسات «الانعـتاق» من الذات؛ بما وراء الذات.
لكن «رحلة الانعـتاق» هي الشاقة وهي الممتعة في آن؛ وليست فردوس القبض على الذات في لحظة محو بسُكْر صوفي أو لحظة توكيد بخَدَرٍ سريري نفساني أو تنموي. إن رحلة البحث عن الذات هي الوعي بتجربة الوجود وصيرورة الانوجاد. يـتداغـَم في تجربة الوجود كُلٌ من الذاتي والموضوعي، المعنى واللامعنى، النسبي والمطلق.
=[يَتبع في الأسبوع القادم].
(ملاحظة)
أنوه إلى أن الفكرة التي تُحاول المقالة أعلاه فهمها، لا علاقة لها بما يُسمى في أدبيـات العـلوم النفـسية والتربوية «اضطراب انخفاض/تدني تقدير الذات». (وللمزيد يُراجـَع هذا التقرير)[ هنا].(3).
*****
*إحـالات:
(1) يـُنظر: إيزابيل الليندي Isabel Allende موسوعة ويكيبيديا. (تاريخ الاسترجاع: 2020/7/3م).
(2) ميريدث ماران، لماذا نكتب؟ ترجمة: بثينة العيسى وآخرون، ط1، 1435هـ- 2014م، الدار العربية للعلوم، بيروت – لبنان، ص36.
(3) https://increasingselfworth.com/69-signs-of-low-self-worth/
(ت.م: 2020/7/3م).
———–
*** مصدر صورة المقال (هنا).
*** (Photo by (Here