(1) أزمة حضارية:
يستفتح محمود شاكر (1909-1997م[1]) رسالته الثقافية [2]–[3] بوصفه مثقفًا ينتمي بولاء شديد إلى كيان حضاري إسلامي عربي بـ”مهمة رسالية“، تحمل هذه المهمة هموم كل مثقف لديه الإحساس بكونه عضوًا[4] في أمة وجماعة بشرية. ذلك أن الإنسان ابن عصره، وحصاد سياقه الاجتماعي والثقافي، لكن أن يكون المثقف بصيرا بـ روح العصر الذي يعيش، تلك مهمة صعبة وشاقة، لأنها تتطلب الارتقاء والاستعلاء على جغرافية الفكر الذاتي في لحظة تاريخية ما. إن اللحظة التاريخية التي عاشها محمود شاكر قُدِّر لها أن تكون لحظة “انكسار حضاري” عام عاشته البلدان الإسلامية والعربية في التاريخ الحديث، على كل المستويات السياسية المجزأة، والاجتماعية المفككة، والعلمية الراكدة، والاقتصادية المنهوبة.
(2) أزمة المنهج:
ظل محمود شاكر وهو ابن قدَره التاريخي والأدبي والثقافي متفكرًا في أسباب ما أسماه “فساد الحياة الثقافية[5]“، وقد أدخله هذا التفكير في عملية استبطان للمخزون التراثي العربي بنهم شديد ومتنوع، بدافع الحيرة المعرفية، وإن كان للآداب العربية شعرًا ونثرًا أولويتها عنده، الأمر الذي سيدركه لاحقًا ويسميه بـ”منهج التذوق[6]“، رغم ممارسته له عمليًا قبل الوعي به، وتسميته، وتوصيف معالمه في رسالته الثقافية. يكتشف الشاب محمود شاكر عبر التطواف في تراث علوم الإسلام ودفائن آداب العربية، “عبقرية العقل العربي“، في النحو عند سيبويه، وفي البيان عند الجرجاني. لكنه يريد توصيف هذا الاكتشاف وجعله مِنهاجًا لكل مستبصر في شأن هذا التراث الحضاري العربي، ويحاول أن يذهب إلى أبعد من رسم الـ”منهج” عبر الحفر في “ما قبل المنهج“، حيث أن أساس الـ منهج –عند شاكر- ينشعب إلى بابين؛ يتعلق أولهما بالوجه المضموني للمادة المدروسة عبر استيعابها استيعابًا يتصف بالشمول، وثانيهما يتعلق بترتيب وتنظيم هذه المضامين في نسق تحليلي نقدي. ووعاء المنهج وحامله في الدلالة والمدلول هو”اللغة”.
فما قبل المنهج في آداب اللسان يتكون من عناصر”اللغة” التي تحمل المعاني، وهذه المعاني تنمو في رحم”الثقافة” العامة. الثقافة هنا هي ميدان المعترك الإنساني، ومدخل “الهوى” والفوضى الثقافية يحتاج إلى ضمائن أخلاقية في كل ثقافة. وأساس كل ثقافة –حسب شاكر- وجذر كل منظومة معرفية هو “الدين” الفطري العام، الذي هو الأساس الأخلاقي الضامن لسير النشاط المعرفي بشطريه المضموني والمنهجي. والعناية بالأصل الأخلاقي في منهج المعرفة البشرية عبر التراث الإسلامي، معلم بارز في التراث الأخلاقي عامة، والتراث التزكوي خاصة.
(3) الوعي التاريخي:
يعود شاكر إلى اللحظة الحضارية المأزومة محاولا استشفاف معالم ذبول اللحظة الحضارية الإسلامية، حيث ينبه إلى صدمتين حضاريتين وقعتا في تاريخ الغرب تجاه الشرق الإسلامي والعربي، وعلينا الوعي بهما، (1) الصدمة الأولى: الحروب الصليبية التي بدأت في(1096م-489هـ) والتي انطلقت بدافع ديني مسيحي أوروبي. (2) والصدمة التالية: ثالوث أ) الاستشراق ب) والاستعمار ج) والتنصير، حيث كان الأول مستشارًا معرفيًا(=حسب شاكر)، يقدم خرائط المعرفة الشرقية جغرافيًا وتاريخيًا للسياسي الذي لديه مطامح استلابية واقتصادية، ودينية “تنصيرية”، يتولى أمرها رجال الدين المسيحي الأوروبي في أفريقيا والمشرق عامة.
(4) الاستشراق والثقافة الأسيرة:
قدم الاستعمار خدمة جليلة للاستشراق، حيث باتت آلاف الكتب والمخطوطات العربية بين يدي الاستشراق، وهذا النشاط الاستشراقي -بمختلف دوافعه- كانت ثمرته المعرفية في أوروبا بين يدي علماء النهضة الأوروبية. قدم الاستشراق –حسب شاكر- للعقل الغربي صورة نمطية تعميمية وتعتيمية عن رجل الشرق الإسلامي والعربي خاصة، مفادها أن”العرب قوم جهال جفاة[7]” جاءهم رجل غيَّر مسيرتهم، وكوَّن قوات عسكرية اجتاحت الأرض، ونهبت تراث الحضارات السالفة من هندية وفارسية وآرامية… وهم قطعة من سِفر “القرون الوسطى المظلمة”!
(5) الاستشراق المستحيل:
إن إنتاج المعرفة –حسب شاكر- يتطلب امتلاك ناصية أدوات المنهج وما قبله 1) مضمونًا شموليًا مستوعبًا 2) وترتيبًا تحليليًا متناسقًا، عبر ثلاثي: أ) اللغة ب) ووسيط الثقافة ج) والأساس الأخلاقي الضامن من اللاموضوعية “=الهوى”. وكل هذه الشروط والأدوات غير متحققة في المنجز الاستشراقي-حسب شاكر-. لذلك هو عمل وإن كانت فيه بعض الجهود والأسماء المتبتلة والاستثنائية في محاريب المعرفة البحتة إلا أننا لا نستطيع الثقة به تجاه علوم الإسلام وحضارة المسلمين وآداب العربية-وهذه خلاصة موقف شاكر من الفكر الاستشراق عامة-[8].
إن موقف محمود شاكر من المنجز الاستشراقي، موقف ينتمي إلى موقفه الحضاري من الغرب عمومًا، وهو موقف ينتمي إلى زمرة المواقف الرافضة بشدة لكل الخطاب الاستشراقي كما هو الشأن عند أعلام في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر كعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، والمودودي، ومحمد قطب، مصطفى حلمي، وأنور الجندي، ومحمد محمد حسين… في آخرين.
وهو موقف له مبرراته الحضارية، لظروفه التاريخية، -وليس بالضرورة هو موقف صائب- كما أن لموقف التمييز والقبول التفصيلي للمنجز الاستشراقي مصاديقه الموضوعية، وحقائقه المعرفية.
______________
إحالات:
[1] أبو فهر محمود محمد شاكر، (1327 – 1418 هـ) = (1909 – 1997 م)، أديب مصري، لقب بـ”شيخ العربية”، عاصر أعلام عصره في البيان والآداب أمثال أحمد تيمور، وأحمد زكي باشا، والخضر حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد الذي ارتبط بصداقة خاصة معه، وكانت له خصومات ثقافية مع طه حسين، ولويس عوض حول التراث الإسلامي والعربي. له تحقيقات ومؤلفات، منها: “أباطيل وأسمار”، و”نمط صعب ونمط مخيف”، وتحقيق:”دلائل الإعجاز”، و”أسرار البلاغة” للجرجاني، وغيرها. انظر: “شيخ العربية وحامل لوائها أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق“، لمحمود الرضواني، و “دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبي فهر” لعدد من محبيه وتلامذته.
[2] منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الأسرة، 1997، في 182صفحة، وقد نُشر الكتاب أيضا في مكتبة الخانجي بمصر مفردا ، وكذا ملحقا ضمن كتاب المتنبي، وكذا طبع مفردا في دار السلام،… وغيرها من النشرات.
[3] والتي هي مقدمة لكتابه (المتنبي) حيث أن المقدمة أصبحت أشهر من المتن الرئيس، والتاريخ العلمي الإسلامي يعرف هذا النوع من المؤلفات؛ فمقدمة ابن خلدون لتاريخه أصبحت محل عناية العلماء أكثر من تاريخه.
[4] إشارة إلى الحديث النبوي “المؤمن للمؤمن كالجسد إذا اشتكى منه عضو…”-الحديث-. وإشارة إلى مفهوم “المثقف العضوي” عند المناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937م) بوصف المثقف أحد عوامل الإنتاج الثقافي والإيديولوجي في المجتمع.
[5] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص17، 23
[6] مصدر سابق، ص13-15 فما بعد.
[7] مصدر سابق، ص60 -بتصرف-.
[8] انظر مصدر سابق، (61-70).
شاهد: وثائقي | محمود شاكر