في الحياة حقَائق تُبرهن عليها مسيرة التاريخ البشري الكبير، ووقائع التجارب البشرية اليومية، ومن تلك الحقائق =حقيقة أن ((الألـم)) عنصر رئيس في سِنْخ الوجود البشري العام. ولعل تَطوَافة عَجْلَى على تاريخ الإنسان الشخصي كفيل بأن يؤكد حقيقة أن الألم قَدَرُ الـحَياة.
ويسير الإنسان في الحياة بتوجه ساذَج غالباً =يتصور أن الأصل في الحياة السعادة والابتهاج واللذائذ، فإذا بتجارب الأيام وأحداثها تزحزح تصوره البريء. والأمر يعود في بعض جذوره إلى التنشئة التربوية التي يحاول فيها الأبوان تقديم صورة زاهية ومثالية عن الحياة الخالية من الألم= صورة زائفة عن حقيقة الحياة.
وعند القبول بواقع الألم في الحياة=يكون دور الإنسان الوعي بمراتب الآلام، أو ما يسميه فقهاء الأصول والمقاصد بـ ((فقه الموازنات))= والإداريون يسمونه بـ ((فن إدارة الأزمات)) وفي علم السلامة البيئية بـ(( إدارة الكوارث)). وقبول الدخول في معارك تقليل الخسائر.
وفي وجود الإنسان -من منظور القرآن الكريم- إشاراتٌ دالة على أن الألم مزامن للحياة، وأن ((الابتلاء)) هو قدر الإنسان عبر التاريخ البشري، والابتلاء مضاعَف لأصحاب الرسالة، وسُفراء القيم الخالدة من حق وخير وجمال.
ويرسم القرآن لوحة البشرية في شلال الزمن التاريخي بوصفها رحلة من المكابدات= يـُمتحن فيها الإنسان في أخلاقه ومسيرة سلوكه، فهذا الكائن الذي وصفه خالقه بقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] وجوده محاطٌ بالشدائد والبلايا، وقَدَرُه هو الكَبَد الوجودي.
ويحلل الإمام المراغي (تـ1371هـ)-رحمه الله- مسيرة الابتلاء والكبد الإنساني بأن الله تعالى”…جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدئة بالمشقة، منتهية بها؛ فهو لا يزال يقاسي من ضروبها ما يقاسي منذ نشأته في بطن أمه إلى أن يصير رجلا، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت، ويلاقي في قبره وفي آخرته من المشاق والمتاعب، ما لا يقدر عليه إلا بتيسير الله سبحانه.
والسر في التنبيه إلى أن الإنسان قد خُلِق في عناء= الرغبة في تسلية رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاق، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان”.«تفسير المراغي» (30/ 157).
هكذا هي الحياة شئنا أم أبينا، يكابد فيها الإنسان في دروب الحياة، وغايته أن ينال شرف الاستمساك بالقيمة النبيلة، والعمل الشريف الذي لا ظُلمَ فيه لنفسه وغيره.
قرأتُ ذاتَ مرة كلمة هي في منزلة الحكمة العملية لأديبة فرنسية تقول فيها: “حافظ على الطِّيبة-ذلك الكنز العظيم في داخلك- وتعلم أن تعطي دون تتردد، وتخسر دون ندم، وتحصل على ما تريد دون خبث”.